الأربعاء 11 سبتمبر 2024 10:00 مساءً
تحذير: هذه القصة تحتوي على تفاصيل مؤلمة
"هذه نهاية العالم .. الأسى يقتلني .. تخيّل مدى ما تعانيه أُمٌّ تشاهد أطفالها يموتون أمامها" هكذا تحدثت أمينة.
ومات لأمينة ستة من الأطفال قبل أن يبلغ أيّ منهم عامه الثالث، وها هي تشاهد طفلة أخرى من أطفالها تصارع الموت.
هجيرة، رضيعة في الشهر السابع، لكنها في حجم طفل حديث الولادة، وتعاني سوء تغذية حادا، تشغل نصف سرير في مستشفى جلال آباد الإقليمي بولاية ننكرهار شرقي أفغانستان.
وهي تكاد تصرخ من الألم، قالت أمينة: "الجوع يفترس أطفالي .. كل ما أستطيع أن أقدمه لهم من طعام هو الخبز الجاف والماء".
على أنّ أقسى ما في هذه القصة، أنها ليست فريدة من نوعها في أفغانستان، حيث توجد أرواح كثيرة جدا يمكن إنقاذها.
وتعد هجيرة واحدة من بين 3.2 مليون طفل يعانون سوء التغذية الحاد الذي يعصف بأفغانستان منذ عقود.
وشهدت أفغانستان 40 عاما من الحرب تركت البلاد ملاذا للفقر، ثم عادت حركة طالبان إلى السلطة قبل ثلاثة أعوام لتزيد الأمر سوءا.
والآن، وصلت الأحوال في أفغانستان إلى مستوى غير مسبوق من التدني.
ويتعذر على أي إنسان أن يتخيل مدى معاناة 3.2 مليون طفل من سوء التغذية الحاد، ومع ذلك، فهذه صورة من جناح صغير بمستشفى واحد لربما تكشف طرفاً من اللثام عن وجه الكارثة.
ثمة 18 رضيعا على سبعة أسِرّة، وليس هذا وضعا استثنائيا، ولا هو مرض موسميّ، لكن هذه هي الحال يومياً.
وفي هذا الجناح من المستشفى، لن تسمع صراخ أطفال أو ملاغاة، فقط الصمت المدمّر للأعصاب، والذي لا يقطعه إلا صوت صفير جهاز مراقبة ضربات القلب.
وليس السبب في هذا الصمت أن الأطفال تحت التخدير أو لأنهم يرتدون أقنعة الأكسجين، كلا إنهم مستيقظون لكن الإعياء بلغ منهم منزلة لم يعودوا معها قادرين على الحركة أو حتى على إصدار أي صوت.
وتشارك هجيرة نفس السرير، طفلة في الثالثة من عمرها تُدعى سناء، ترتدي غلالة أرجوانية وتغطي بيدها الضئيلة وجهها. والدة سناء ماتت وهي تلد أختها الصغرى قبل بضعة أشهر، لتتولى خالتها ليلى رعايتها.
وأقبلت ليلى نحونا وعدّت سبعة أصابع من يديها، في إشارة إلى عدد مَن فقدت من الأطفال.
وعلى سرير مجاور، يرقد طفل في الثالثة من العمر يُدعى إلهام، ولا يكاد حجمه الصغير ينمّ عن سنواته الثلاث، وكان جِلد ذراعيه وساقيه ووجهه يقشّر. وقبل ثلاثة أعوام، ماتت أخت إلهام بينما كانت في عامها الثاني.
أمّا أسماء ذات السَنة الواحدة، فما أشدّ الألم الذي ينتاب مَن ينظر إليها، بعينيها العسليتين تحرسهما أهداب طويلة في غاية الجمال، لكنهما مفتوحتان على اتسّاعهما، ولا تكادان تطرِفان إلا حين تأخذ أسماء نفَساً عميقا عبر قناع الأكسجين الذي يغطّي معظم وجهها الصغير.
بينما كان الطبيب سيكاندار يتابع حالة أسماء، طأطأ رأسه وقال: "لا أظنها ستعيش؛ لقد أصيبت بصدمة إنتانية".
وعلى الرغم من كل ذلك، كان الوضع في جناح المستشفى حتى هذه اللحظة متماسكا – الممرضات والأمهات تقُمن بأدوارهن، تغذّين الأطفال، وتلاطفنهن، وفجأة توقّف كل ذلك، وارتسم الحزن على الوجوه.
كانت والدة أسماء قد شرعت في النواح، وكشفت عن نقابها ومالت على ابنتها تقبّلها.
"كأن جسدي يذوب .. لا أتحمل رؤيتها تعاني على هذا النحو"، وكانت هذه الأُم وتُدعى نسيبة قد فقدت من قبل ثلاثة أطفال.
وقالت نسيبة: "زوجي عامل بالمياومة، ولا نأكل إلا عندما يجد عملا".
وقال لنا الدكتور غاني، إن الطفلة أسماء عُرضة للسكتة القلبية في أي لحظة. وبالفعل، لم تمضِ ساعة حتى داهمت السكتة قلب أسماء وأسكتته إلى الأبد.
ووفقاً لوزارة الصحة في ننكرهار، مات 700 طفل في الشهور الستة الماضية بمستشفى جلال آباد – أكثر من ثلاثة في اليوم. وهو رقم مرعب، لكن كان يمكن أن يكون أعلى من ذلك بكثير لو لم يكن هذا المستشفى يحظى بتمويل من البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسيف.
وحتى أغسطس/آب 2021، كانت التمويلات الدولية تذهب مباشرة إلى الحكومة السابقة لحكومة طالبان، لتغطي القطاع الصحي العام في أفغانستان.
وبعد عودة طالبان للسلطة، توقف التمويل الدولي بسبب العقوبات المفروضة على الحركة، مما أدى بدوره إلى انهيار النظام الصحي في البلاد، فتقدمت وكالات الإغاثة للنهوض بما كان يُفترض أن يكون استجابة طارئة مؤقتة.
ودائماً ما كان هذا حلاً مؤقتاً غير دائم، والآن، في عالم مشتت بهموم أخرى كثيرة، تضاءلت فرص أفغانستان في الحصول على تمويل.
إضافة إلى ذلك، سياسيات حكومة طالبان، لا سيما فيما يتعلق بفرض قيود على النساء، تركت المانحين مترددين في إعطاء تمويلات.
وقال حمدالله فطرت، نائب المتحدث باسم حكومة طالبان لي بي سي: "لقد ورثنا مشكلة الفقر وسوء التغذية، والتي تفاقمت بسبب الكوارث الطبيعية كالفيضانات والتغير المناخي".
وأضاف: "ينبغي على المجتمع الدولي أن يزيد المساعدات الإنسانية؛ لا ينبغي أن يربطوا المساعدات بالشؤون السياسية والداخلية".
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، قمنا بزيارة أكثر من عشرة مرافق صحية في أفغانستان، وشاهدنا كيف يتدهور الوضع بوتيرة سريعة، وفي كل زيارة لمستشفى، نشاهد أطفالا يموتون.
لكن ما شهدناه أيضا يدلّ على أن العلاج المناسب يمكن أن ينقذ أطفالا، ومن هؤلاء الطفلة هجيرة، التي كانت حالتها متأخرة عندما زُرنا المستشفى، هي في حال أفضل وقد تحسنت صحتها وخرجت من المستشفى، بحسب ما أخبرنا الدكتور غاني عبر الهاتف.
وقال غاني: "لو كان لدينا دواء أكثر، ومرافق طبية أكثر، وأطقم طبية أكثر عددا، لتمكنّا من إنقاذ أطفال أكثر".
وأضاف غاني: "أنا أيضا لديّ أطفال. عندما يموت طفل، نعاني نحن أيضا. أعرف شعور الآباء".
وليس سوء التغذية هو السبب الوحيد وراء ارتفاع أعداد الوفيات في البلاد، فثمة أمراض أخرى يمكن الوقاية منها وعلاجها، ومع ذلك تقتل الأطفال في ربوع أفغانستان.
وإلى جوار جناح سوء التغذية في مستشفى جلال آباد، يوجد قسم العناية المركزة، وقد شاهدنا فيه طفلة رضيعة في الشهر السادس كان اسمها عُمرة، وكانت تصارع الالتهاب الرئوي الحاد.
وكانت عُمرة تصرخ بشدة بينما تحقنها ممرضة، وفي أثناء ذلك، كانت نسرين والدة عُمرة تجلس إلى جوارها وتبكي.
وهذه هي قصص الأطفال الذين تمكّن أهلُهم من إدخالهم المستشفى، وهناك أعداد لا حصر لها لأطفال لا يستطيع أهاليهم إدخالهم للمستشفى. ومن بين كل خمسة أطفال، هناك طفل واحد ممن يحتاج إلى العلاج في المستشفى، يستطيع أهله إدخاله مستشفى جلال آباد.
ويشهد مستشفى جلال آباد ضغطا شديدا؛ فما أن أصبح نصف السرير الذي كانت ترقد عليه الطفلة أسماء فارغا بموتها، حتى جيء على الفور بطفلة أخرى مكانها تُدعى علياء.
وعندما ماتت الطفلة أسماء، لم يكن هناك وقت لدى مَن في الجناح بالمستشفى لكي يتأمل؛ فهناك طفلة أخرى تعاني مرضا خطيرا وتحتاج إلى علاج.
ويقدّم مستشفى جلال آباد الخدمة الصحية لنحو خمس ولايات أفغانية، عدد سكانها يناهز خمسة ملايين نسمة بحسب تقديرات السلطات الأفغانية.
وفي الأحياء السكانية القريبة من المستشفى، رصدنا حالات نقص في النمو بين الأطفال. وقدّرت الأمم المتحدة إصابة نحو 45 في المئة من الأطفال دون الخامسة في أفغانستان بالقزامة – حيث يبدون أقصر مما ينبغي لهم في هذه السن.
محمد، ابن روبينا، يبلغ من العمر سنتين ومع ذلك لم يستطع الوقوف بعد، فضلاً عن أنه أقصر مما كان ينبغي له في مثل هذه السن.
"أخبرني الطبيب بأن الطفل إذا حصل على علاج خلال فترة من ثلاثة إلى ستة أشهر فسيصبح بخير. لكننا لا نستطيع حتى تأمين الطعام. فكيف نؤمّن ثمن الدواء؟" هكذا تساءلت روبينا.
واضطرت روبينا إلى مغادرة باكستان العام الماضي، وهي الآن تعيش في معسكر مُترب وقاحل في منطقة الشيخ مصري القريبة من مدينة جلال آباد.
وفي العام الماضي، رحّلت باكستان قسرياً نحو 700 ألف لاجئ أفغاني، ولا يزال هؤلاء يعيشون في ولاية ننكرهار.
تقول روبينا: "أخشى أن يصبح ابني معاقا لا يستطيع المشي على قدميه".
وتضيف روبينا لبي بي سي: "في باكستان، عشنا حياة شديدة الصعوبة، ولكن كان هناك عمل؛ أما هنا [في أفغانستان] فنادرا ما يجد زوجي عملا، ولو أننا كنّا في باكستان لاستطعنا أن نعالج ابننا".
منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسيف، تقول إن نقص النمو يمكن أن يتسبب في مشكلات بدنية وإدراكية حادة يتعذّر علاجها، وقد تمتدّ آثارها مدى الحياة، بل وقد تورّث للجيل القادم.
يقول دكتور غاني: "أفغانستان تعاني بالفعل اقتصاديا، فإذا ما كان قطاع كبير من أبناء الجيل المقبل معاقين جسديا أو نفسيا، فكيف سيتمكن مجتمعنا من مساعدتهم؟".
ومن الممكن إنقاذ محمد من مصير صعب ينتظره إذا لم يحظَ بالعلاج المناسب قبل فوات الأوان.
لكن برامج التغذية التي تديرها وكالات الإغاثة في أفغانستان قد شهدت انخفاضات دراماتيكية في التمويل وصل في عدد من تلك البرامج إلى الرُبع.
وفي أثناء تجوالنا بين حواري منطقة الشيخ مصري، قابلنا عائلات لديها أطفال يعانون سوء التغذية أو نقص النمو.
ساردار غول لديه طفلان يعانيان سوء التغذية: أكبرهما يُدعى عمر ويبلغ من العمر ثلاثة أعوام، والصغير اسمه مجيب ويبلغ من العمر ثمانية أشهر، وهو ذا الجالس على حِجر أبيه في الصورة أعلاه.
وقال ساردار لبي بي سي: "قبل شهر، نقص وزن مجيب نحو ثلاثة كيلوغرامات. ولكننا تمكنّا من تسجيل اسمه لدى وكالة إغاثية، وبدأنا في الحصول على أكياس أغذية، ولقد ساعدته هذه الأكياس".
ويبلغ وزن مجيب الآن نحو ستة كيلوغرامات – ولا يزال أقلّ من وزنه الطبيعي، ولكنه تحسّن بشكل ملموس.
وفي هذا دليل على أن التدخل المناسب يمكن أن يساعد في إنقاذ الأطفال من الوفاة والإعاقة.
أخبار متعلقة :