الأربعاء 11 سبتمبر 2024 10:00 مساءً
- Author, أميتاب باراشار
- Role, تحقيقات بي بي سي
-
قبل 6 ساعة
تشبثت القابلة سيرو ديفي بمونيكا تاتي، وهي تبكي بحرقة. فمونيكا، وهي في أواخر العشرينات من عمرها قد عادت إلى مسقط رأسها، في تلك البلدة الهندية التي كانت فيها سيرو مسؤولة عن توليد مئات الأطفال.
لم يكن هذا نوعاً من لم الشمل بين الفتاة والقابلة التي ساعدت في أن ترى النور؛ فهناك تاريخ مؤلم وراء دموع سيرو.
فقبل وقت قصير من ولادة مونيكا، تعرضت سيرو وعدة قابلات هنديات مثلها لضغوط منتظمة أجبرتهن على قتل الفتيات حديثات الولادة. وتشير الأدلة إلى أن مونيكا واحدة من المولودات اللائي حظين بإنقاذ القابلات لهن.
كنت أتابع قصة سيرو لمدة 30 عاماً، منذ أن ذهبت لمقابلتها هي وأربع قابلات أخريات من المناطق الريفية في ولاية بيهار الهندية في عام 1996.
ولقد حددت منظمة غير حكومية هؤلاء القابلات بأنهن المسؤولات عن قتل المولودات في مقاطعة كاتيهار التابعة لولاية بيهار، حيث كن يقتلنهن تحت ضغط من الوالدين، إما بإعطائهن مواد كيميائية، أو بكسر أعناقهن ببساطة.
في ذلك الوقت، أخبرتني هاكيا ديفي، أكبر القابلات اللاتي أجريت معهن المقابلات، أنها قتلت 12 أو 13 طفلة.
واعترفت قابلة أخرى تدعى دارمي ديفي، بقتل عدد أكبر من الأطفال، ما بين 15 إلى 20 طفلة على الأقل.
ومن المستحيل تحديد العدد الدقيق للإناث اللائي قُتلن بيد هؤلاء القابلات، نظراً للطريقة التي جُمعت بها البيانات.
ومع ذلك، هناك تقرير نشرته منظمة غير حكومية في عام 1995، استند إلى مقابلات مع هؤلاء القابلات و30 قابلة أخرى. وإذا كانت تقديرات التقرير دقيقة، فإن أكثر من ألف طفلة رضيعة كن يُقتَلن كل عام في منطقة واحدة، على يد 35 قابلة فقط.
ووفقاً للتقرير، كان عدد القابلات في ولاية بيهار في ذلك الوقت أكثر من نصف مليون قابلة. ولم يقتصر قتل الأطفال على تلك الولاية وحدها.
لم يكن رفض الأوامر بالخيار المتاح أمام القابلات إلى حد كبير، بحسب هاكيا التي قالت: "كانت الأسرة تغلق الغرفة وتقف خلفنا بالعصيّ".
وأضافت: "كانوا يقولون: لدينا بالفعل أربع أو خمس فتيات، وهذا من شأنه أن يقضي على ثروتنا. فبمجرد أن نقدم المهر لبناتنا، سنموت جوعاً. وها هي أنثى أخرى قد وُلدت. فاقتلوها".
وقالت لي متسائلة: "من الذي كان يمكننا أن نشكو إليه؟! لقد كنا خائفات. إذا ذهبنا إلى الشرطة، فسنواجه المشكلات، وإذا تحدثنا، فسيهددنا الأهالي".
لا شك في أن دور القابلة في المناطق الريفية في الهند متجذر في التقاليد، ومثقل بواقع الفقر والطبقية القاسية؛ حيث تنتمي القابلات اللاتي أجريت معهن المقابلات إلى الطبقات الدنيا في التسلسل الطبقي في الهند.
لقد توارثت القابلات تلك المهنة عن الأمهات والجدات، ويعشن في عالم لا يقبل رفض أوامر الأسر القوية التي تنتمي إلى الطبقة العليا.
أحياناً تتلقى هؤلاء القابلات وعوداً بالحصول على ساري [الزي التقليدي] أو كيس من الحبوب أو مبلغ صغير من المال، مقابل قتل الإناث من الأطفال. وفي بعض الأحيان لا يحصلن حتى على مقابل.
وبشكل عام، فإن ولادة الذكور تعني للقابلة الحصول على نحو 1000 روبية (أي نحو 12 دولاراً)، أما ولادة الإناث فتعني الحصول على نصف هذا المبلغ.
وأوضحت القابلات أن سبب هذا الخلل متجذر في تقليد الهند المتمثل في أن أهل الفتاة هن المسؤولات عن تقديم المهر لأهل العريس.
وعلى الرغم من حظر هذه العادة في عام 1961، إلا أنها ظلت قوية في التسعينيات، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
هذا المهر قد يكون أي شيء؛ نقوداً أو مجوهرات أو أواني؛ لكنه بالنسبة لأسر كثيرة، ثرية كانت أم فقيرة، يعد شرطاً للزواج. وهذا ما يجعل ولادة الذكر مدعاة للاحتفال، مقابل ولادة الأنثى التي يُنظر إليها على أنها عبء مالي للكثيرين.
ولقد استخدمت سيرو ديفي، القابلة الوحيدة التي ما زالت على قيد الحياة مِن بين مَن أجريت معهن المقابلات، تشبيهاً جسدياً حياً لتوضيح هذا التفاوت في المكانة بين ولادة الذكر والأنثى.
"الولد مكانه على الأرض، فوقها. والبنت تحت الأرض، أسفلها. وسواء كان الولد يُطعم والديه أو يعتني بهما أم لا، فإنهم جميعاً يريدون ذكراً".
وربما يتضح مدى تفضيل الذكور، من خلال البيانات على المستوى الوطني في الهند. فقد سجل أحدث تعداد سكاني في عام 2011 نسبة 943 امرأة لكل 1000 رجل. ومع ذلك، فإن هذا يمثل تحسناً بالمقارنة بتسعينيات القرن العشرين، ففي تعداد عام 1991، كانت النسبة 927/1000.
بحلول الوقت الذي انتهيت فيه من تصوير شهادات القابلات في عام 1996، بدأ تغيير ضئيل صامت؛ فقد بدأت القابلات اللاتي كن ينفذن هذه الأوامر في المقاومة.
وقد حرضت على هذا التغيير أنيلا كوماري، وهي موظفة في الشؤون الاجتماعية تدعم النساء في القرى المحيطة بكاتيهار، وقد كرست جهدها لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه الجرائم.
كان نهج أنيلا بسيطا، حيث وجهت سؤالاً للقابلات: "هل تفعلن هذا ببناتكن؟".
ويبدو أن سؤالها أثار سنوات من التسويغ والإنكار. وحصلت القابلات على بعض المساعدة المالية من خلال الشؤون الاجتماعية، وبدأت دائرة العنف في الانكسار تدريجياً.
هذا التغيير شرحته لي سيرو في عام 2007، قائلة: "الآن، كل من يطلب مني القتل، أقول له: أعطني الطفلة، وسآخذها إلى أنيلا مدام".
نتيجة لذلك، تمكنت القابلات من إنقاذ ما لا يقل عن خمس مولودات من أسر أرادت قتلهن، أو تخلت عنهن. ورغم وفاة إحداهن، إلا أن أنيلا رتبت إرسال الأربعة الأخريات إلى منظمة غير حكومية نظمت تبنيهن في باتنا، عاصمة ولاية بيهار.
كان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد. لكنني أردت أن أعرف ما الذي حدث لهؤلاء الفتيات، وإلى أين مضت بهن الحياة.
كانت سجلات أنيلا دقيقة ولكنها لم تتضمن سوى القليل من التفاصيل حول ما بعد التبني.
وبالتعاون مع فريق خدمة بي بي سي نيوز، تواصلتُ مع سيدة تُدعى ميدها شيكار، كانت في فترة التسعينيات تبحث في قضية قتل المولودات في بيهار، عندما بدأت المولودات اللائي أنقذتهن أنيلا والقابلات، في الوصول إلى منظمتها غير الحكومية.
ومن اللافت للنظر أن ميدها كانت لا تزال على اتصال بشابة كانت تعتقد أنها واحدة من هؤلاء الطفلات اللاتي أنقِذن.
أخبرتني أنيلا أنها أعطت كل الفتيات اللاتي أنقذتهن القابلات رمز "كوسي" قبل أسمائهن، تكريماً لنهر كوسي في بيهار. وتذكرت ميدها أن مونيكا كانت تحمل هذه البادئة "كوسي" في اسمها قبل تبنيها.
لم تسمح لنا هيئة التبني بالاطلاع على سجلات مونيكا، لذا لا يمكننا أبداً التأكد من ذلك.
ومع ذلك، فمن خلال أصولها التي تعود لمدينة باتنا، وتاريخ ميلادها التقريبي، والبادئة "كوسي" تشير جميعها إلى النتيجة ذاتها، وهي أن مونيكا، على الأرجح، واحدة من المولودات الخمس اللائي أنقذتهن أنيلا والقابلات.
عندما ذهبت لمقابلتها في منزل والديها على بعد حوالي 2000 كيلومتر (1242 ميلاً) في بوني، قالت إنها شعرت بأنها محظوظة لأن عائلة محبة تبنتها.
قالت مونيكا: "هذا هو تعريفي للحياة السعيدة الطبيعية، وأنا أعيشها".
كانت تعلم أنها متبناة من بيهار، لكننا تمكنا من إعطائها المزيد من التفاصيل حول ظروف تبنيها.
في وقت سابق من هذا العام، سافرت مونيكا إلى بيهار لمقابلة أنيلا وسيرو. نظرت مونيكا إلى نفسها كتتويج لسنوات من العمل الشاق لأنيلا والقابلات.
"أشعر كما لو كنت إنساناً ينتظر نجاحه في الامتحان. لقد قاموا بالعمل الشاق وهم الآن في غاية الفضول لمعرفة النتيجة. لذلك بالتأكيد، أود مقابلتهن".
بكت أنيلا من شدة الفرح عندما التقت بمونيكا، لكن رد فعل سيرو كان مختلفا.
لقد بكت بشدة، وهي تحتضن مونيكا بقوة وتصفف شعرها.
قالت لها: "أخذتك [إلى دار الأيتام] لإنقاذ حياتك. ولقد اطمأنت روحي الآن".
ولكن عندما حاولتُ بعد يومين الضغط على سيرو بشأن رد فعلها، قاومت المزيد من التدقيق، وقالت: "ما حدث في الماضي بات من الماضي".
ولكن ما لم يعد من الماضي هو التحامل الذي لا يزال لدى البعض على الإناث.
فعلى الرغم من أن التقارير عن قتل المولودات الإناث أضحت نادرة نسبياً حالياً، إلا أن الإجهاض الانتقائي على أساس الجنس لا يزال شائعاً، على الرغم من كونه غير قانوني منذ عام 1994.
وإذا استمع المرء إلى "سوهار"، وهي الأغاني الشعبية التقليدية عند الولادة في أجزاء من شمال الهند، فسوف يجد أن الفرح مقتصر على ميلاد طفل ذكر. ورغم أننا في عام 2024، إلا أن الأمر لا يزال يتطلب من المطربين المحليين تغيير كلمات الأغنيات بحيث تناسب ميلاد أنثى.
أثناء تصوير فيلمنا الوثائقي، عُثِر على طفلتين صغيرتين مهجورتين في كاتيهار، واحدة بين شجيرات، والأخرى على جانب الطريق، لم يتجاوز عمرهما بضع ساعات. توفيت إحداهما فيما بعد، وعُرضت الأخرى للتبني.
قبل أن تغادر بيهار، زارت مونيكا هذه الطفلة في مركز التبني الخاص في كاتيهار.
وتقول إن فكرة التخلي عن الإناث المولودات كانت تطارد أفكارها، فعلى الرغم من انخفاض معدلات قتل الإناث، إلا أن هذه الممارسة لا تزال مستمرة.
"إنها دورة الزمن؛ أرى خلالها نفسي هناك قبل بضع سنوات، وأرى الآن طفلة تشبهني هناك من جديد".
ومع ذلك، هناك أوجه تشابه تدعو للسعادة من ناحية أخرى.
فقد تبنى زوجان في ولاية آسام الشمالية الشرقية هذه الطفلة، وأطلقا عليها اسم إيدا، الذي يعني السعادة.
يقول غاراف والدها بالتبني، وهو ضابط في القوات الجوية الهندية: "لقد رأينا صورتها، وقلنا بكل وضوح إن الطفلة التي ذاقت التخلي مرة، لا يمكن التخلي عنها مرتين".
كل بضعة أسابيع يرسل لي غاراف مقطعاً مصوراً حديثاً لإيدا، أحياناً أشاركه مع مونيكا.
وبالنظر إلى الوراء، فإن الثلاثين عاماً التي أمضيتها في هذه القصة لم تكن تتعلق بالماضي فقط؛ بل كانت تتعلق بمواجهة الواقع المزعج.
ما كان كان. لا يمكن التراجع عما حدث في الماضي، لكن يمكن تغييره.
ومع هذا التغيير، يلوح الأمل.